المغرب بريس ماروك بريس maroc Press
لا تشترط الصّداقة تلاقي المستويات، بل تلاقي الأرواح. صادقتُ مرة منظّفة في إحدى صالات الرّياضة، وراقصة سابقة، ومدلّكة يُشتبه في عملها. بين نساء النادي من الموظفات، وزوجات المسؤولين الكبار ورجال الأعمال. لم أجد في غيرهنّ ما يجذبني إلى صداقةٍ محدودة في المكان والزمان. فيهنّ دفءٌ ومحبّة فطريتان مع ذكاء عاطفي، وحساسية مفرطة تجاه الآخرين. ربما لوجودهنّ خارج سلم النفاق الاجتماعي، أو لأنّهن في قاعهِ، بشكلٍ أو بآخر، حافظن على إنسانيةٍ مرحة. فرغم انخراطهن في هواية النّميمة في غرفة الملابس، إلّا أنه انخراط سطحي، في دواخلهن كنّ مشغولات بجوهر الحياة. طبعا، ليس لمِهنهنّ فضل في ذلك، لكنّني حين لم أحكم عليهن، رأيت ما خلف القناع والمظهر أرواحاً جميلة، رغم قبح الواقع.
مرّة، تشاجرَت المنظّفة مع المدلّكة، ولم أتّخذ جانباً في الواقعة، فما تمّ استعماله من كلمات لا جلد لي لتفكيكه. بعد أن هدأتا وتفرّقتا، تصرّفتا كأنّ شيئاً لم يكن. واستعادت كلّ منهما نفسها ببساطة، وعادتا إلى المزاج السّمح والمحب. أدركتُ حينها كم علينا أن نتعلّم من الذين لا نتوقّع منهم شيئاً. كادت المنظّفة أن تصادقني كابنة، وكدتُ أن أصادقها كأم. لكن كلا منّا لم تسأل عن الأخرى بعد انقطاعي عن النادي. صادفتُ الراقصة السّابقة مرّة في الشّارع مع صديقةٍ أخرى، تمشي بلامبالاة تجاه الحياة. ولم أر المدلّكة منذ كنّا ندردش في غرفة السونا، في مواضيع صغيرة وخفيفة من دون أحكام.
لعلني آمنت يوماً بما قاله ويليام ييتس “الصّداقة هي المنزل الوحيد الذي أعرفه”. لكنّني لم أعد قابلة للصّداقة كما كنتُ، لذا حين عادت صديقتان قديمتان بعد فراق كانتا المبادرتيْن إليه، لم تجدا عندي أدنى تجاوب. لم أعد الشّخص نفسه، فقد أنضجتني الحياة على نارٍ غير هادئة. ربما لو سمحت لهما بالاقتراب لما تعرّفتا إلي، ولا تعرّفتُ إليهما. تفارقنا في العشرينيات، ونحن نعرف أن السّنوات ما بين العشرين والأربعين هي فترة التغييرات الجوهرية. لا شيء يُحيا بعدهما ما لم يكن حياً فيها.
لم أعد مادّة صالحة للصّداقة التي كنت أعرف: صداقة الأرواح وولاء الأيام كلّها. كنت أظن أنّني من الذين قد يدفنون معك جثة. لكنني لا أستطيع الآن إلا أن أدفن جثة الصّداقات، بعد أن قتلها الأصدقاء. ولا يمكنني نبش أحد قبورها واعتبار ما نهض منها من القبر كائناتٍ حيّة، فالأموات لا يقومون إلا في الأفلام ويوم الحشر.
مع ذلك، كم من العلاقات التي تحمل مسمّياتٍ أخرى تقوم على صداقة حقيقية، زمالة عمل أو دراسة، رابطة دم، جيرة، زواج، رفقة. نبيّ الإسلام مع أبو بكر الصديق، موسى مع هارون، جلال الدين الرومي مع شمس التبريزي، دون كيشوت مع سانشو بانزا، روبنسون كروزو مع جمعة. وهل ينسى أحدُنا كيف صنع توم هانكس صديقاً من كرة، ليقاوم معه العزلة الإجبارية. ثم، هناك درجة من الصداقة قليلٌ من يتحدّث عنها، وهي صداقتنا أناسا لم نلتق بهم أبداً، ولن نفعل. شعراء وكتاب وفنانون وعلماء، عاشوا قبلنا بقرون أو عقود. ولأنّ الكيمياء التي جمعت أرواحنا بأرواحهم تتجاوز حدود الزّمان والمكان، قد يصبحون أصدقاء لنا بعد موتهم أكثر من أيّ إنسان حي.
هناك أيضاً نوعٌ من الصّداقة يمكن أن نسمّيها صداقة راقصة، قابلة للتشكل والقفز والدوران … كما قد نصف صداقة محمود درويش وسليم بركات. فبعد تلاشي زوبعة ما نشره بركات عن أبوّة محتملة لمحمود درويش، وجدتُني أفكّر في حدود الصّداقة داخل وسط ما، فنحن لا نعرف أشياء عن فلان أو فلانة، لولا أنهما أسرّا للأصدقاء في الوسط بذلك. لو لم يظنّا أن الصّداقة جدارٌ سميك يعلّقان عليه أسرارهما، لما صار الجميع يعرف قصصهما. إنّها صداقة ملغومة يمكن أن تنفجر في وجهك مثل البالون فجأة. لكن صداقة الكتب شيءٌ آخر، فالكتابة مسألة شخصيّة للغاية، ولا يمكن أن نفصل حياة الكاتب عما يكتبه. ولن تصل الكتابة إلّا إذا انطلقت من الصدق، والألم الشّخصي والفقد أو الفرح، والضيق أو الاتّساع في حياة الكاتب. هنا يصبح الكاتب صديق كلماته ونصّه والقارئ.