حين قررت جماعة آيت بوكماز قطع عشرات الكيلومترات سيرا على الأقدام في صيف يلهب الجبال، لم تكن تحركها شعارات حزبية أو أجندات خارجية، بل رغبة حقيقية في نيل حقوق يُفترض أنها بديهية: صحة، تعليم، طرق معبدة، حياة كريمة.
هم صرخة صامتة لجسد مهمش، كما وصفها بيير بورديو في سياق مفهومه عن “الحق في الاعتراف الاجتماعي” و”المجالات المنسية” التي تُجرد من فعالياتها.
وفي المقابل، نرى اعتصام بوعبيد، الرجل الأربعيني فوق خزان مائي بجماعة أولاد يوسف، الذي اختار التعبير الفردي عن غضبه من “غموض” وفاة والده، فتطور الأمر إلى مشهد درامي عنف فيه احتجاز عنصر الوقاية المدنية ورميه من علو شاهق.
ليس هذا انفلاتًا فرديًا فقط، بل تعبير عن حالة متقدمة من الإحساس بـ”العجز المكتسب”، حيث تحكمت سياسة الإقصاء الاجتماعي في إرادة التصرف في الذات والآخر، وهو ما يشرح به جوناثان هايدت تراجع الثقة في المؤسسات، وتحولها إلى حقل من الحساسيات المتفجرة.
في هذا الإطار، لا نستطيع فهم الأمر بمعزل عن رؤية نانسي فريزر للعدالة الاجتماعية التي تتجاوز المساواة الاقتصادية لتشمل الاعتراف والتمكين، حيث إن غياب الاعتراف هو ما يولد الاحتجاجات المطلبية من هذا النوع، سواء كانت جماعية كآيت بوكماز أو فردية كاعتصام بوعبيد.
كما أن مفهوم “ترييف الدولة” عند الباحث المغربي عبد الرحيم العطري، الذي يصف به نمط تدبير الهوامش الذي يُغرق المناطق النائية في الإقصاء المنهجي، يساعدنا على فهم لماذا تستمر هذه الأزمات في التكرار، بالرغم من كل الشعارات والخطابات.
في هذا الصدد، نستحضر خطاب العرش ليوليوز 2017 الذي تحدث فيه الملك بوضوح عن ضعف الأداء المؤسساتي، وأشار إلى مسؤولين “لا يهمهم سوى مصالحهم الخاصة”، ودعا إلى وضع المواطن في قلب السياسة العمومية. لكن بعد ثماني سنوات، ونحن في يوليوز 2025، يبدو أن هذا الخطاب بقي حبرًا على ورق، أو مجرد رسالة لم تُقرأ بجدية من قِبل الجهات المفوّضة بالتنزيل.
لا يمكن إغفال تحذيرٍ سابق أطلقه خالد تيكوكين، النائب البرلماني السابق عن دائرة أزيلال دمنات وأحد أبناء منطقة آيت بوكماز، خلال جلسة برلمانية بتاريخ 25 دجنبر 2017. خاطب الحكومة قائلاً: “حينما نتجه إلى الجبل يقل كل شيء، تقل التنمية، يقل احترام الإنسان، تقل الكرامة، بل حتى الأوكسجين يقل… ما نعيشه من غُبن تتحمله دولة أهانتنا وأهملتنا لعقود، وما زالت إلى الآن تظلمنا عبر برامج تخترقها السياسة طولًا وعرضًا.”
وحذر من أن تسييس التنمية في العالم القروي سيؤدي إلى تربية جيل “يرتدي قميص المتسول في علاقته بوطنه”، جيل منهك حتى “لم يعد يجد في نفسه القوة للتضامن مع قضايا الأمة”.
كلام تكوكين لم يكن مجرد موقف برلماني عابر، بل نداء استباقيًا ينبع من صلب الجبل يحذر فيه من خطر السياسات المترددة والمنظور السلعي تجاه العالم القروي.
وبينما كان الملك محمد السادس يلقي خطاب العرش في يوليوز 2017، مشددًا على أن المؤسسات يجب أن تخدم المواطن، لا أن تتحول إلى بيروقراطية، جاء تحذير تيكوكين كصدى ميداني لتلك الرسالة الرسمية، معبّرًا عن الإحباط المتراكم من غياب إرادة فعلية لإحداث تغيير. بعد سبع سنوات على ذاك التحذير، ونحن في يوليوز آخر، نعاين واقعًا مهددًا بالانفجار في مناطق مثل آيت بوكماز، وكأنّ المطلوب انتظار خطاب آخر كي يستيقظ المسؤولون على واجباتهم.
إن تأخر التجاوب مع مطالب المواطنين، وغياب سياسة فعالة للوساطة الاجتماعية، يدفع المواطنين إلى البحث عن أشكال احتجاجية مكثفة، ليس بدافع العنف، بل لفقدان الثقة في قنوات الحوار المؤسساتي. يذكرنا ذلك بنظرية “السياسة كفعل تحرري” عند المفكر اليساري هربرت ماركوزه، الذي يرى أن الفعل السياسي الحقيقي هو ذاك الذي يرفض الهيمنة ويطالب بالتمكين والاعتراف.
لذلك، فإن النداء اليوم لا يقتصر على إعادة قراءة خطاب 2017، بل هو دعوة صريحة للمسؤولين أن يتحملوا مسؤولياتهم السياسية بجدية، وأن لا ينتظروا خطابًا جديدًا في العرش القادم ليعيدوا النظر في علاقة السلطة بالمواطن، فالكلمات لا تنفع حين تغيب الأفعال.
في النهاية، لا تكمن القوة الحقيقية لأي خطاب في كلماته وحدها، بل في التزام الفاعلين السياسيين بأن يجعلوا من تلك الكلمات أفعالًا ملموسة تُعيد للمواطن كرامته، وتُعزز ثقة الجماعة بالدولة. فالجبال صرخت، وأصوات الهامش لم تعد تُحتمل أن تُسكَت. إذا كان الصمت هو الرد، فإن هذا الصمت نفسه سيكون صوتًا أقوى من أي خطاب.
يقول الفيلسوف الفرنسي بيير بورديو: “الهيمنة الحقيقية هي التي تجعل من الصمت فعلًا مقبولًا.”
ولكي تتحقق العدالة الاجتماعية الحقيقية، يجب كسر هذا الصمت، ليس فقط بالاحتجاج، بل بتغيير جوهري في البنية السياسية والاجتماعية التي تتحكم في علاقة السلطة بالمجتمع.
أما نانسي فريزر فتؤكد أن “العدالة لا تتحقق إلا إذا تم الاعتراف بالآخر ومنحه مكانته الكاملة في المجتمع، وليس فقط توزيع الموارد”، وهو ما يفسر استمرار الاحتجاجات حين تُهمش أصوات المجموعات، وتُعامل كحالات هامشية، وليس كشركاء في صياغة المستقبل.
وبهذه الروح، على كل مسؤول أن يدرك أن انتظار خطاب آخر، أو فرصة جديدة للتذكير، هو تضييق للفرص المتاحة لإصلاح العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وحجب لفهم أعمق لمطالب شعب لم يعد يقبل أن يكون فقط مستمعًا، بل يريد أن يكون فاعلًا ومعترفًا به.